بدت الحرب وشيكة الحدوث في لحظة من لحظات الأسبوع الماضي، فبعد يوم من تحذير وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف زعماءَ أوكرانيا من استخدام القوة في الأزمة هناك، هاجمت قوات من الجيش الأوكراني نقطة تفتيش خارج بلدة سلوفيانسك التي يستحوذ عليها الانفصاليون. وردت القوات الروسية عبر الحدود بمناورات وصفت بأنها «تدريبات» صاحبتها تصريحات من الكرملين بلغت درجة قول «لقد تم تحذيركم». وعرض التلفزيون الروسي صورة لسلوفيانسك كما لو أنها مأساة قرية جيرينكا الإسبانية التي خلدتها لوحة لبيكاسو بهذا الاسم. وذكرت وسائل الإعلام الأوكرانية أن المسلحين الانفصاليين استخدموا المدارس ورياض الأطفال دروعاً بشرية، وصعد كل جانب إيقاع آلته الدعائية، وأحس العالم بنوع جديد من الارتباك والريبة وتشوّه المعلومات دفع الصراع إلى حافة الهاوية، فقد ترك الافتقار إلى سلطة مشروعة في شرق أوكرانيا فراغاً يحول دون وجود حقائق شفافة ومتفق عليها، ما خلق أرضاً خصبة للشكوك والألعاب الدبلوماسية على هوامش الحقيقة التي قد تحمل المنطقة إلى الحرب. ولنأخذ في الاعتبار «الرجال الخضر» المسلحين الذين استولوا على بلدات، والذين انتشرت صورهم في وسائل الإعلام هذا الشهر. هل يعملون لمصلحة الروس؟ لقد قالت الولايات المتحدة إن الضلوع الروسي في الأمر يتجاوز «ظلال الشك». وأصدر الروس نفياً قاطعاً، لكن ظلال الشك لم تفارق أوكرانيا. وفي المقابل، فإن عدم الاتفاق على الحقائق، أي عدم المشاركة في حقيقة أساسية، أصبح العرف المعتاد، فمن هو الذي وزع منشورات تطلب من اليهود تسجيل أنفسهم لدى السلطات؟ هل هي «الحكومة» الجديدة المعادية للسامية في دونيتسك التي أعلنت نفسها جمهورية مستقلة، كما تزعم الحكومة الأوكرانية، أم أنه عمل استفزازي قصد به تشويه سمعة الانفصاليين المؤيدين لروسيا؟ وحتى الأسئلة الأكثر عمقاً، والتي من المفترض أن تكون لها إجابة واحدة في كيان سياسي صحيح يتمتع بمصادر معلومات موثوق بها، لها الكثير من الإجابات في أوكرانيا: فمن قتل الناس في ميدان الاستقلال في كييف الشتاء الماضي؟ هل الحكومة الحالية شرعية، أم أنها مجرد جماعة مسلحة أخرى مطلوب منها أن تخلي المباني العامة بموجب اتفاق جنيف؟ لكن الإجابة على كل سؤال من هذا تتوقف على هوية من يُوجه إليه السؤال، وعلى المكان الذي يُطرح فيه، فالروايات القادمة من غرب أوكرانيا يسيطر عليها هاجس أن خلف كل حدث مؤسف يكمن عميل روسي. وفي الشرق والجنوب تسود روايات تشي بأن المسلحين القوميين أوكرانيين بدعم من الغرب هم من يحركون خيوط اللعبة. فمراوغة الحقائق من أعراض انزلاق البلاد إلى عدم اليقين، وهي أيضاً عامل مساعد على هذا الانزلاق. والسلطات الشرعية الحكومية والفعلية والقانونية والأدبية تتآكل دون توقف، ومعها تضيع فرص التوصل إلى نتائج سلمية. فعندما أطيح الرئيس فيكتور يانوكوفيتش يوم 21 فبراير كان الانقسام واضحاً، فغرب أوكرانيا أشاد بتعيين رئيس انتقالي باعتباره ثورة، لكن المناطق المؤيدة تاريخياً لروسيا في الشرق والجنوب وصفت ذلك بأنه انقلاب. ولم يكن السبب ببساطة هو أن الحكومة استمدت رجالها بكثافة من الغرب، ولكن كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ أوكرانيا، بعد الحقبة السوفييتية، التي تتغير السلطة فيها عن طريق آخر غير الانتخابات. فقد كتب توماس هوبز ببلاغة عن الحياة في غياب سلطة سياسية، لكنه لم يتمكن من استشراف التشويه الحديث للحقائق والروايات الذي يصاحب انهيارها. وحالياً، تحللت السلطة في كل صورها، وأصبحت الحياة، ليست «بغيضة ووحشية وقصيرة» فحسب، بل مترعة بالتضليل الإعلامي والأكاذيب لدرجة يتعذر معها العثور على طريق واضح للتسوية، كما أن الافتقار للثقة يؤدي إلى عمل مسلح. لقد رأينا مثل هذا العالم من قبل في البلقان ورواندا في تسعينيات القرن الماضي، ونراه اليوم في سوريا في ظل حكم بشار الأسد. ففي الأنظمة السياسية الصحية توجد حقائق يمكن الرجوع إليها، لأن هناك مصدراً موثوقاً به للسلطة والصراعات تحسم سلمياً، وهذا هو المفتقد في أوكرانيا. فقد تمزق الإجماع بشأن الأحداث في أوكرانيا، وتحللت السلطة السياسية المشروعة هناك، والظاهرتان تسيران في ركب واحد كفارسين مشؤومين يحملان بشارة السوء. إذا كان هناك أمل في الفرار من تلك الظروف، يتعين على أوكرانيا أن تستعيد المشروعية لقيادتها وحقائقها معاً. ومن الصعب رؤية الكيفية التي يمكن بها تحقيق هذا، والبلاد تكاد تقع في هاوية حرب أهلية، أو في تدخل روسي أو كلاهما. فبينما يوجد لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا مراقبين في أوكرانيا، تقوم قوات الحكومة في كييف والانفصاليون المؤيدون لروسيا في الشرق بتقييد حركتهم. لذلك على روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا وأوروبا أن تمنح المنظمة مزيداً من السلطة لتقديم رواية محايدة لحقائق الصراع. لكن القدرة على استعادة السلطة المشروعة في نهاية المطاف تقع على كاهل حكومة كييف. فكييف عازمة فيما يبدو على فعل هذا من خلال قوة السلاح، لكن المشروعية لا يمكن أن تخرج من فوهة المسدس، بل تتحقق بانتخابات نزيهة. ومن المقرر إجراء الانتخابات في 25 مايو المقبل، وكي ينظر لهذه الانتخابات باعتبارها نزيهة، يتعين على زعماء كييف القيام بعملية دمج واستقطاب مناسبة لجنوب وشرق البلاد في الحكومة قبل بدء عملية التصويت، وإذا لم تفعل هذا، فقد تستطيع روسيا دمجهما أولا بقوة السلاح. ----- كيث داردن أستاذ مساعد في مدرسة الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية بواشنطن ----- ينشر بترتيب خاص معع خدمة «نيويورك تايمز»